الأحد، 14 فبراير 2010

قصة قصيرة / الحياة وأنت ميت / لغيث الرواحي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحياة وأنت ميت

ل:غيث بن حمود الرواحي






ليس من الصعب أن تموت وأنت حي فتلك هي العادة في الحياة لكن كل الصعوبة أن تعيش وأنت ميت ...


كانت تلك هي مختصر قطرات دمعه المتساقطة على خده الذابل وهو جالس على كرسي المستشفى الأزرق ينظر إلى الجدار المقابل في الرواق بصمت يختنق صرخة تصل إلى الحلق فتغص بدموع حارة فتطفيها في جوف القلب لكنها لا تفنيها بل تبقيها مشتعلة من تحت الرماد ...


من بعيد وقرب باب المستشفى نظر إلى شاب ثلاثيني يعدو بأسرع ما يمكن حتى أنه أصطدم بإحدى العجائز المراجعات في عيادة العيون دون أن يعلم أنه فعل وله الحق في طيرانه في السموات دون أن ينظر البشر من تحته فطفله الأول قد تنفس بعد تسع سنين من الصبر والحاجة لهذه الروح التي قطفت من روحة ... لم يتأخر الإنجاب لعيب في الزوج أو في الزوجة لكن المشيئة العليا لم ترغب حينها أن تمنحهما هذا الوليد لغاية لا يعلمها إلا هو ..


أما العجوز التي سقطت على الأرض فهي أحدى المراجعات الدائمات لعيادة العيون من يوم إلى يوم ومن ساعة إلى ساعة تأتي لترى ما حل بعيونها وكأنها لا تعلم ما حل بعيونها من السنين الثمانين حتى أصبحت كظل باب عيادة العيون وما يحير الفهم لماذا يصرف لها في كل زيارة الدواء ففي كل زيارة تحمل كيس منها تكفي لفتح عيادة للعيون ...


بكل تأكيد أن هذه العجوز لم تقف بمفردها فمع الاصطدام طارت عكازها في السماء وحط على رأس أحد الممرضات المارات من قربها ... بعد أن حكت رأسها نظرة يمنه ويسرة بحثا عن مصدر هذه العصا فهي لم تنزل من السماء فالمستشفى له سقف !! ...


قبل أن تجد العجوز غاصت قليل مع الألم وتذكرت دون مشقه يد أبوها وهي تسقط على خدها وهي تأكل معه في نفس المائدة لا لشيء إلا لأنها أعطت أخيها الصغير الكوب الزجاجي الأبيض ذو الرسوم النباتية البرتغالية وتشبه بألم حروف أمها حين تصفها في آخر الليل وقد أوى كل حبيب إلى حبيبه لتذكرها بأنها عانس بلغت من العمر الثلاثين ولم تتزوج كأنها دنت في عيشها من أحقاب الديناصورات في العيش ...


في هذه اللحظة كانت ممرضة أخرى تتكئ بغنج وأنوثة كأنها أحد الحمامات في موعد التزاوج على منضدة الاستقبال تكلم العامل هناك, هي من ساعدت العجوز بالوقوف بعد أن دخلت زميلتها في غيبوبة تفكير وكأنها صنم من زمن الجاهلية إلا أن الأصنام ليس لها دموع !! ...


لعنت العجوز والممرضة حين قطعتا عليها جلست التأمل في وجه وسيم المستشفى الذي يحب كل ذات تاء تأنيث كانت من كادر المستشفى أو الزائرات والمريضات ولتلك الغاية جيش كل بيسة في راتبه لكن هذه الجنود لم تكفي لحربة عالية التكلفة فأسلحته العطرية الثمينة وساعته السويسرية هدت فيالق الجيش حتى أطرته كل العادة في كل حرب طلب العون والمئونة من الكل وفي أول القائمة محمد مصطفى عامل النظافة البنجلادشي ...


قبل أن تصل الممرضة لتساعد العجوز في الوقوف كانت تتمتم بكلمات غير لائقة لكن حين أمسكت بيدها لم تملك إلا لتبتسم مع تنهدات مريرة تأتي من العمق حيث لا يوجد إلا الصدق في الشعور ...


ذكرتها يدها الممدودة إلى العجوز وشكل ترابط أصابعها مع أصابع العجوز المترهلة بيد أمها حين تساعدها على أداء الصلاة وهي متجلبة بجلبابها الأسود الدائم على جسدها الدال على الحداد على شريك حياتها الذي مات منذ سنة ولم ترضى خلعه أكراما لحب الميت ...


ساندتها حتى وقفت وجلبت لها عصاها بل لم ترضى إلا أن توصلها إلى عيادة العيون زكاة لروح والدتها المتوفاة في الشهر القبل الماضي من فرط الشوق والحب مع مراعاة المصطلح لبعلها المتوفى ...


في طريقها كانت الممرضة الأولى لتزال في دوامة حزنها تقيس أي ألم هو الأشد وهل ذاقت كل طعم منه أم لزال هناك المزيد وحين دنت من الإجابة قطعتها ضربة الممرضة الأخرى من رعب إجابة أطروحتها الفكرية ...


وصلت بعد ضربة كوع زميلتها دربها صوب الجالس على الكرسي الأزرق الناظر بحزن إلى باب المستشفى ... جاءت لتخبره بأزوف الوقت على ميعاد جلست علاجه الكيمائية ووجود استعداده لها ...


فالمسكين كان مصب بسرطان الدم ...





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق